سباق التسلح.. والسلم العالمي
في أجواء الاحتفالات في الأيام الماضية بعيد الميلاد حسب التقويم الغربي الجريجوري ثم التقويم الشرقي اليولياني، نستذكر إحدى وصايا نبي الله عيسى عليه السلام في موعظة الجبل، إذ قال: «طوبى لصانعي السلام لأنهم أبناء الله يُدعون». والسلام اسم من أسماء الله، ومبدأ أساسي في الأديان كلها سماويةً كانت أم أرضية.
ومع ذلك كان تاريخ العالم مزيجاً من حروبٍ دمرَّت وخرَّبت، وسلامٍ أتاح البناء والتطور والتقدم. ويبدو العالَم في مطلع عام 2023 متجهاً نحو سباق تسلح في أجواء ملبدة بغيوم كثيفة. وستكمل الحرب في أوكرانيا عامَها الأولَ بعد 40 يوماً، بدون أفقٍ واضح لوقفها. ويلوح شبح حروب أخرى، في الوقت الذي يزداد سباق التسلح بمعدلات غير مسبوقة منذ أكثر من ثلاثة عقود عندما انتهت الحرب الباردة الدولية. فقد توقع معهد ستوكهلم الدولي لأبحاث السلام «سيبري»، في تقرير نشره في يونيو الماضي، أن تعود ترسانة الأسلحة النووية للارتفاع بعد 32 عاماً من الانخفاض النسبي في إجمالي عدد الرؤوس النووية في العالم. والأرجح أن يكون هذا الارتفاع المتوقع سريعاً، لأن لدى واشنطن وموسكو برامج لتحديث واستبدال الرؤوس النووية المُخزَّنة وأنظمة إطلاقها. كما أن الدول النووية السبع الأخرى تستطيع تطوير منظوماتها.
كما يزداد سباق التسلح التقليدي بمعدلات أسرع. ويُعد دخول ألمانيا واليابان هذا السباق بقوة تحولاً تاريخياً لم يكن متصوراً حتى مطلع العام الماضي. فقد أقر برلمان ألمانيا تعديلاً دستورياً يتيحُ زيادةَ قدراتِها العسكرية، سعياً لأن يصبح جيشُها الأكبرَ في حلف «الناتو». ومضت اليابان في الاتجاه نفسه، إذ أسفر حوار داخلي عن إعادة تفسير النص الدستوري على أن تكون القدرات العسكرية لأغراض دفاعية. وبناءً عليه أقرّ برلمانُها زيادةَ الإنفاق الدفاعي من 1 إلى 2% من الناتج المحلي الإجمالي، وخطةً لإعادة بناء قواتها تُقدَّر قيمتُها بنحو 300 مليار دولار.
وستكون شركاتُ الأسلحة الأميركية المستفيدَ الأولَ من هذا التحول، وكذلك من تلبية طلبات دول الجناح الشرقي لحلف «الناتو» في سعيها إلى زيادة قدراتِها العسكرية. سيزداد إنتاجُ هذه الشركات وسترتفع مبيعاتُها على نحو يدعم قدرتَها على تطوير أسلحة جديدة، وتحديث أخرى موجودة.
وتعبئ روسيا، في المقابل، أقصى إمكاناتها لتعويض الأسلحة المستخدمة في الحرب بعد استنفاذ كثير منها، في الوقت الذي تسعى إلى حل أزمة توقف وارداتها من بعض مكونات صناعة هذه الأسلحة، وفي مقدمتها الرقائق الإلكترونية.
كما رفعت الصين ميزانيتها العسكرية الجديدة بنسبة 7.1%، لتصبح ثاني أكبر ميزانية من هذا النوع في العالم بعد نظيرتها الأميركية، وليدخل سباق التسلح بين الدولتين مرحلةً جديدة في ظل تصاعد الصراع على النفوذ في شرق آسيا، وتنامي التوتر بشأن قضية تايوان.
وهكذا يبدو السلم العالمي مهدَّداً بفعل ازدياد سباق التسلح على هذا النحو. لكن تجارب الدمار الناتج عن الحروب قد تدفع للجنوح إلى السلم، فيما يعاني العالَم جراء حربٍ طويلةٍ لا رابح فيها.
*مستشار مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية